لو تأملنا، في تاريخ عالمنا الإسلامي لرأينا أن حركات الإصلاح التي قامت، كان وراءها العلماء الأفاضل المخلصون، خصوصًا الدول الإسلامية، التي وقعت في فترة من فتراتها تحت ظل الاستعمار الغربي، تجد أن الذي قاوم الاستعمار، وأن الذي أيقظ وألهب روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون.
أيها المسلمون: لنتعرف على أحد هؤلاء العلماء، وعلى الجهاد الذي بذله في وجه الاستعمار في بلاده، فإن في معرفة سيرة هؤلاء ودراسة الأوضاع والأحوال التي مرت ببلادهم لعبرة وعظة، وفيها من الدروس والفوائد الشيء الكثير.
شخصية هذه الحركة الإصلاحية هو العالم الشيخ/ عمر المختار. وهذه الحركة قامت في بلاد المغرب على أرض ليبيا، ولنستعرض معكم أيها الأخوة كتب التاريخ، ولنقلب صفحاته لنتعرف على تلك الحركة الإصلاحية، ولنتعرف على ذلك الشيخ الفاضل
ولد عمر المختار من أبوين مؤمنين صالحين عام 1858م أي قبل (134) سنة في بلدة البطنان ببرقة، ووالده السيد مختار عمر من قبيلة المنفة في بادية برقة، وقد توفي والده في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج.
وهذه أول بادرة جديرة بالالتفات إلى حياة عمر المختار الذي ذاق مرارة اليتم في صغره، فكان هذا هو أول الخير في قلب البطل، ذلك أنه يتيم منكسر، والقلب المنكسر يشعر بآلام الناس، فإذا صادف مثل هذا القلب الإيمان ودخله حب الله وتغلغل فيه، تحول إلى قلب نوراني رحيم يلجأ إلى الله القوي المتين في كل أمره، ويحنو دائمًا على الضعفاء والمساكين. ثم ذهب عمر إلى الجغبوب وهي منطقة عندهم لإتمام دراسته وبقي بها ثمانية أعوام، وأظهر من الصفات الخلقية السامية ما حبّب فيه شيوخ السنوسية.
والسنوسية، دعوة إسلامية أسسها الشيخ العالم المجاهد محمد بن علي السنوسي في تلك البلاد. أحبه شيوخ السنوسية وزعماءها فتمتع بعطفهم ونال ثقتهم حتى إن السيد محمد المهدي السنوسي عند انتقاله من جغبوب إلى الكفرة عام 1895م اصطحب عمر المختار معه.
محمد بن على السنوسى
وفي عام 1897م عيّنه السيد المهدي شيخًا لزواية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج. وكان يقطن بهذه الزاوية، وحولها قبيلة العبيد، وهم أناس عرفوا بشدة المراس وقوة الشكيمة، وقد اختاره السيد المهدي لهذه الزاوية حتى يسوس شئونهم باللين تارة وبالعنف تارة أخرى، وحقق المختار ما عقده السيد المهدي على إدارته الحازمة من آمال.
وعندما قرر السيد المهدي الانتقال إلى السودان الغربي سنة 1312هـ كان المختار في طليعة من ذهبوا معه، وذلك حتى يسهم بنصيب في القتال الذي نشب وقتذاك بين السنوسية والفرنسيين في المناطق الجنوبية وحول واداي.
وأقام المختار في "قرو" مدة من الزمن، ثم عينه السيد المهدي شيخًا لزاوية "عين كلك" فاستمر المختار بالسودان الغربي وقتًا طويلاً نائبًا عن السيد المهدي، وكان يقوم بتعليم أبناء المسلمين وينشر الإسلام في هذه البقاع النائية، فالمختار داعية كبير، له أثر واضح في الدعوة إلى الإسلام تميز بالمحاورة والإقناع وحسن الإرشاد والتوجيه.. إنه أستاذ في هذا الفن.. أبت نفسه الكبيرة أن يكتم ما يعلم وأن يقعد مع القاعدين، فانطلق يبشر برسالة الإسلام، وينقل الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور.
وبعد وفاة السيد المهدي عام 1902م استدعي المختار إلى برقة وعُيّن مرة أخرى شيخًا لزاوية القصور، فبذل الهمة في حكم قبيلة العبيد وسياسة شئونها حتى سلس له قيادها، وكانت من أكبر القبائل عنادًا حيث عجزت السلطات الرسمية عن إخضاعها. ولهذا فقد شكرت الحكومة العثمانية للمختار هذا النجاح.. وهذه موهبة أخرى للعالم البطل، فقد كان موهوبًا بفطرته، حبته الأقدار موهبة الحكم والفصل بين الناس، والقدرة على الإدارة الحازمة.. فها هو يأتي إلى قبيلة عاتية، تحار فيها قوات الدولة، يأتيها الداعية القوي فتنقاد وتطيع وتمضي على نظام مكين، وما ذلك إلا لأن روح المختار روح قوية تؤثر سريعًا في كل من رآها أو خالطها أو عمل معها، وقد ظلت هذه الصفة فيه إلى آخر لحظة من حياته.
لما فاجأت إيطاليا الدولة العثمانية بإعلان الحرب عليها عام 1911م، وقام الأسطول الإيطالي بإطلاق قذائفه على موانئ طرابلس وبرقة.. وقع على السنوسي عبء الدفاع عن البلاد التي نشأت فيها دعوتهم، وكانت مقر إمارتهم. فاحتشدت جموعهم في ميادين القتال خصوصًا في برقة، وبدأ كفاح صارم استمر مدة ثلاثين عامًا تحمّل أثناءه السنوسيون أعظم تضحية قدمتها أمة في العصر الحديث من أجل المحافظة على بقائها.
ومنذ مجيء الطليان إلى برقة وطرابلس حتى وقت خروجهم منها مهزومين مقهورين خطّ السنوسيون قصة كفاحهم بدمائهم وأقاموا الدليل بعد الآخر على أن الشعوب التي تعتز بعقائدها وتاريخها لا يمكن فناؤها مهما تضافرت ضدها القوى المادية التي تعتمد على البندقية والمدفع وإزهاق الأرواح. وانتشر في طول البلاد وعرضها خبر اعتداءات الطليان على برقة وطرابلس، واستنفرالزعماء السنوسيون شيوخ الزوايا للجهاد.. فكان شيخ زاوية المرج أول من خرج بجيش لنجدة العثمانيين، فكان وصول هذه النجدة مثبتًا لأقدام العثمانيين الذين استطاعوا مع السنوسيين مقابلة الطليان ثم إرغامهم على التقهقر إلى بنغازي. وكان في مقدمة الذين خفّوا لنجدة العثمانيين والالتحام مع العدو في برقة السيد عمر المختار، فقد كان رحمه الله يزور شيوخ السنوسية بالكفرة، وفي أثناء رجوعه إلى زاوية القصور بلغه نبأ نزول الطليان في بنغازي، فلم يلبث بمجرد وصوله إلى القصور أن أمر قبيلة العبيد المنتسبة لزاوية القصور الاستعداد للحرب وخرج بنجدة كبيرة، ثم تبعه بقية شيوخ الزوايا، وتتابعت المعارك وطالت الحرب، واستمر السنوسيون يضيقون الخناق على العدو.. بيد أن الصعوبات الشديدة سرعان ما أحاطت بالمجاهدين من كل جانب لانقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن.. فانسحب عزيز المصري قائد القوة العثمانية بكامل قواته وسلاحه، وبقيت البلاد خالية من وسائل الدفاع.
وفي هذه الظروف الشديدة صمد السنوسيون في وجه الطليان، وتولى عمر المختار قيادة "الجبل الأخضر" ثم أُسندت إليه القيادة العامة للمجاهدين، ولم يتردّد هذا البطل المغوار في قبولها، فشكل جيشًا وطنيًا جعل من خطته التزام الدفاع والتربص بالعدو، حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقض المجاهدون عليهم فأوقعوا بهم شر مقتلة وغنموا منهم أسلابًا كثيرة أمدتهم بأكثر الأسلحة والعتاد مما كانوا في حاجة ملحة إليه. وظل الحال على هذا النوال حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914م. ولما ازدادت الأمور سوءًا بين الأمير السنوسي محمد إدريس المهدي وبين الحكومة الإيطالية الفاشستية، اضطر الأمير إلى مغادرة البلاد عام 1923م إلى مصر. وقبل أن يرتحل عن بلاده نظم خطة الجهاد، وعهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة إلى السيد عمر المختار نائبًا عنه، كما نظم الجهاد في طرابلس وجعل القيادة العامة على الجميع للمختار.. إلا أن الأقدار أرادت أن يتوقف الجهاد بطرابلس. وكان ذلك معناه أن الثورة قد انتهت فعلاً وأن الأمر قد استتب للطليان في طرابلس أخيرًا، وأن برقة وحدها هي التي أصبحت تحمل على عاتقها عبء الجهاد منفردة ضد العدو.. فوقع بذلك العبء كله على السيد المختار، وكان البطل أهلاً لذلك.